تاريخ الإحتلال الفرنسي للجزائر الحلقة ( الثانية)
-------------------------------------------------------------------
ملخص ما ورد في الفقرة السابقة .
كانت فرنسا مدفوعة في غزوها للجزائر بأسباب عدة ولكنها ادعت أمام الرأي العام الأوروبي أن هدفها هو القيام بحملة تأديبية ضد الجزائر، ...وفي الحقيقة إن فرنسا كانت تخطط لاحتلال الجزائر والاستيلاء عليها منذ ۱۷۹۲م،
فمن الناحية العسكرية، فإن الجيش الفرنسي كان يسعى باستمرار لتقوية اسطوله وإنهاء السيطرة الإنجليزية على
حوض البحر الأبيض المتوسط، كما أن هناك أسباب أخرى عديدة سياسية، ودينية واقتصادية .
▪︎كانت فرنسا تعتبر حكومة الجزائر تابعة للإمبراطورية العثمانية التي بدأت تنهار ؛ وتريد فرنسا الحصول على نصيبها من ميراثها الذي ستتقاسمه الدول الإستعمارية
وكان شارل العاشر يرغب في خلق تعاون وثيق مع روسيا في حوض البحر الأبيض المتوسط حتى يتغلب على الهيمنة البريطانية في البحر المتوسط والتمركز في ميناء الجزائر ؛ وكان يعتقد أن الحل الوحيد لإسكات المعارضة هو احراز انتصار باهر على داي الجزائر .
وكانت فرنسا تطمع في خيرات الجزائر وثرواتها الطبيعية الوافرة وتتطلع لتصريف منتجاتها في أسواقها، كما كانت ترغب في التخلص من ديون الجزائر عليها وتتمثل في قيمة كميات القمح الوفيرة التي استوردتها فرنسا منها، وسبق تأجيل السداد بمساعدة بعض التجار اليهود في الجزائر ..
كما كانت تطمع في الإستيلاء على خزينة حكومة الجزائر المقدر قيمة مابها من ذهب و عملات بنحو ١٥٠ مليون فرنك .
وكان للجانب الديني أثر كبير في احتلال الجزائر عام ۱۸۳۰م فمن الأسباب التي دعت فرنسا إلى الغزو هو دعواها إنقاذ المسيحية والمسيحيين من أيدي "القراصنةالجزائريين" والقضاء على عش القرصنة الجزائر حسب تعبيرها أيضا ..
وقد رغبت فرنسا في نشر المسيحية في أفريقيا إنطلاقا من الجزائر ؛ ولا شك أن القادة الفرنسيين كانت تدفعهم غريزة الإنتقام من هذا الدين الذي طرد أجدادهم من شمال أفريقيا و هددهم في عقر دارهم في تولوز ؛ و فشل حملاتهم المتعاقبة على الشرق علي يد نور وصلاح الدين و المماليك؛ و أخيرا فشل حملة نابليون على مصر و الشام .
--------------------------------------------------------------------

{ لا يكون العرب فرنسيين إلا عندما يصبحون مسيحيين، ويتوقف ذلك علينا نحن الاثنين فلنعد الحياة إلى إفريقيا " و " يجب أن نتحلى بحسن التدبير للعمل على اعتناق العرب الدين المسيحي، أما إذا أسرعنا في ذلك فإننا سنضر بالقضية كلها }
وكان رئيس الوزراء قيزو ( Guizot ) على قلب واحد مع
الملك يؤمن بأن : { إمبراطورية المعتقدات الدينية لم تكن
أقل أهمية الأن منها في العصور السابقة ولا أتردد في القول
بحتميتها الآن أكثر من أي وقت مضى }
ولم يتردد قيزو في إبلاغ الأوامر للادارة الفرنسية بالجزائر لتحقيق هذا الغرض، وقد أشار إلى ذلك السيد حمدان خوجة بما يلي :
{... وهكذا فمن الممكن أن يكون مشروع تمسيح الجزائر قد وجد في أذهان ولاتنا ( يقصد المسؤولين الفرنسيين } .
كما أشار إلى ذلك "البريد الفرنسي" بتاريخ 20 جوان 1833 مستعملا العبارات التالية :
{إن الذي لن يفاجأ به الجمهور هو أن رئيس مجلس الوزراء الحقيقي منذ ثورة جولیت وإلى عهد قريب جدا قد كتب إلى المقتصد المدني في الجزائر يوصيه بتمسيح الإيالة، وسكوت الجرائد الوزارية عن هذا الموضوع لا تدل أبدا على أن في الأمر خيرا } .
وبخصوص أمر رئيس الوزراء بالاستزادة من الإستحواذ على المساجد في الجزائر استند السيد حمدان خوجة على ملاحظات بيشون أحد أقطاب الإدارة الفرنسية بالجزائر
ليدلي بالحقائق التالية :
《 والذي يدهشنا في هذا الموضوع هو إذن رئيس الوزراء، لأننا نفهم من خلال ملاحظات بيشون بهذا الصدد في تاريخ 11 ماي 1832 أنه أعطى أوامر فيما يخص ذلك وفيما يلي فقرة بيشون :
{ لقد درست قضية المحلات التابعة للدين الإسلامي وإنني، منذ أن وصلت وأحطت علما بوجود لجنة تدعى " لجنة المحلات العسكرية "لم أسمع إلا صيحات متوالية فيما يخص المساجد وضرورة استزادة خمسة أو ستة منها بالإضافة إلى الستة أو السبعة التي توجد في حوزتنا }
{إن بعض الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم مبيدين للديانة الإسلامية وللسكان الذين يتدينون بها ، لا يهمهم أن يعرفوا إذا كان ذلك يتفق مع وجهة نظر الحكومة ونواياها أم لا ؛ إن هولاء الأشخاص كانوا يتقدمون إلي بنوع من الإبتهاج و السخرية ليشكروني على عدم تمكني من إنقاذهم }
*( يقصد الجزائريين و المساجد).
{... إنكم تدركون جيدا سيدي الرئيس بأنه لا يمكن أن أتردد لحظة واحدة للمساهمة في أخذ جميع المساجد لو كنا
في حاجة إليها ، ذلك لأن سلامة الجيش هي الهدف الأسمى
بالنسبة لي، ولكن القضية قضية ذوق وهوى بالنسبة للأشخاص الذين ذكرتهم ، فالمسألة إذن ليست مسألة إحتياج} 》
*( يعني مسألة حقد أعمى وانتقام )
وفي خضم وخز هذه الاعتداءات على المقدسات الدينية
و على المسلمين في الجزائر سجل السيد حمدان خوجة ما انتهى إليه هؤلاء من قناعة راسخة :
{ إن الحكومة الفرنسية بالنسبة للقبائل (يقصد سكان الجزائر خارج المدن الكبرى ) توجد في نفس وضعية التاجر المذكور (التاجر الذي لا يلتزم بوعوده )، وهؤلاء القبائل لم يعودوا يفرقوا بين الأوروبيين، إنهم يعممون ويقولون : " إنهم مسيحيون، ولا يمكن أن يصادقوهم ولا أن ينسوا حقدهم الديني، ذلك لأنهم لو أتيحت لهم الفرصة للاعتداء عليهم لفعلوا (...) وهل كان الفرنسيون يتصرفون بمثل هذه
الطريقة لو أن الجزائريين كانوا يتدينون بدينهم ؟ }
{ وعلى الرغم من أنني لا أعتقد، شخصيا، بأن الفرنسيين قدموا إلى الجزائر بدافع ديني، فإن تلك هي فكرة كثير من الأشخاص الآخرين الذين يدعمون رأيهم بوقائع لا تقبل المنازعة }
وأما أفعال الجنرال كلوزيل، الذي خلف بورمون كما ذكرنا آنفا، فنترك وصفها للسيد حمدان بن عثمان خوجة الذي كان شاهد عيان :
{ قبل أن أتخلى عن وظيفتي (عضو في مجلس بلدية العاصمة ) كان الجنرال كلوزيل قد طلب من البلدية أن تسلمه مسجد العاصمة الكائن بناحية ميناء المسمكة ليحول إلى مسرح، وأكد بأن حكومته أذنت له بأن يقدم مثل هذا الطلب
فقلنا له : " إننا لا نستطيع الموافقة على هذا الإجراء (...)
واكتفينا بأن قلنا له : إذا كان المرغوب هو إقامة مسرح فإنه
يمكن استعمال مسكن الداي القديم الواسع، كما يمكن استعمال الأراضي المحيطة به لبناء مسرح جديد إذا اقتضى الأمر ذلك، وهكذا ظل الطلب غير مجاب ولم يبن المسرح " }.
{ ووقع كذلك تهديم ثلاثة مساجد كانت خاصة بسكان
تلك المحلات الثلاث ( محلات سوق الصباغين بالعاصمة )
(...) إن نفس الجنرال كلوزيل (...) قد أوجب على المفتي أن
يسلمه المساجد الواقعة أمام الأبواب التي يدخل منها البدو (...) مدينة الجزائر، لقد طلب هذه المساجد ليجعل منها مستشفيات لجيوشه وتعهد للمفتي أنه لن يستعملها أكثر من شهرين واضطر المفتي إلى تنفيذ الأمر .} .... (*1)
----------------------------------------------------------------------

ويروي بعضهم قائلا : إن الاحتفال الذي جرى في العقبة التي بناها أبناء محمد صلی الله عليه وسلم لمواجهة أبناء عیسی علیه السلام قد رتلوا الأناجيل عالية أمام آيات القرآن التي
أصبحت ميتة والتي كانت تغطي الجدران .
إن الجنرال دو بورمون أخذ على نفسه بأن يعمل بالمعاهدة التي وقعها مع الداي حسين كشرط للإستسلام ؛ بأن يحترم الديانة الإسلامية ومقدساتها ، وقد نص البند الخامس من المعاهدة على حرية العمل بالدين الإسلامي واحترام كل شيء يرمز إليه، كما نص هذا البند على احترام الممتلكات لكن هذه
المعاهدة بقيت حبرا على ورق،...
لأن الفرنسيين خرقوا هذه المعاهدة باستيلائهم على أمكنة العبادة وتحويلها إلى كنائس وثكنات وباستيلائهم على الأوقاف والزوايا، وتجرءوا كذلك على نبش القبور لاستخراج الأجر والأحجار للبناء والأخذ عظام الموتى لصنع السماد
وبيعها في مدينة مرسيليا .
ويعترف الفرنسيون بما قام به الجيش حينما دخل مدينة الجزائر فالجنرال موريسيير المعروف بتدينه يقول : حللنا بمدينة الجزائر فاتخذنا من المدارس مخازن وثكنات واصطبلات واستحوذنا على أملاك المساجد والمدارس، وكنا نعتقد أننا سنعلم الشعب العربي مبادئ الثورة الفرنسية، ولكن للأسف أن المسلمين رأوا في ذلك ضربة للدين والعقيدة .
إن عودة الكنيسة إلى الحياة السياسية في عهد شارل العاشر قد سمحت بنشاط الإرساليات التبشيرية في فرنسا وخارجها، وساعدت على خلق جو دیني، وانعكست آثاره على احتلال الجزائر سنة ۱۸۳۰م ، واتضحت هذه الآثار في الطابع الديني الذي اكتسبته هذه الحملة والنزعة الصليبية التي اتصف بها المسؤولون.
وبعد الاحتلال لم تعمل السلطات على احترام الديانة الإسلامية كما جاء في اتفاقية جويلية ۱۸۳۰م عند استيلائها على المساجد والمؤسسات وهدمها دون احترام المشاعر الدينية للسكان وكان هذا بمثابة تدخل في الشؤون الدينية ويمكن أن نعتبره في نظرنا وجها من أوجه التبشير الذي تتعدد وسائله ومظاهره وسوف يحاول المسؤولون ورجال الدين تنفيذه لتثبيت السلطة الفرنسية في الجزائر ولاسيما بعد تأسيس الأسقفية وتوافد رجال الدين عليها .
------------------------------------------------------------------

في ذلك الوقت كانت القرصنة البحرية عملا مشاعا لجميع الدول ومنها فرنسا واسبانيا والبرتغال وهولندا وسردينيا التي كانت أساطيلها تمارس القرصنة البحرية، وكان القراصنة
الأوروبيون يمارسون الوحشية في معاملة أسراهم، إذ كانوا يدمغونهم بالحديد المحمي في النار ويقتلون البعض الآخر بدون رحمة أو شفقة ...
أما البحارة الجزائريون فكانوا يهاجمون السفن التابعة للدول المعادية لبلادهم، وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبارهم "قراصنة" نظرا لشرعية أعمالهم وضرورة تأمين سلامة میاه بلادهم الإقليمية ، فضلا عن أن الجزائريين كانوا يعاملون اسراهم معاملة إنسانية كأسرى حرب .
ومما يذكر أن دول أوروبا البحرية كانت تدفع للجزائر إتاوات معينة مقابل حراسة الأسطول الجزائري لسفنها ومنع القراصنة من التعرض لها، ..
فكانت إنجلترا ترسل مع كل قنصل جدید مبلغ ستمائة جنيه استرليني ذهبا كهدية لحكومة الجزائر، وكانت السويد والدنمارك تدفع اتاوة سنوية قدرها 6400 قرش جزائري، وتدفع صقلية والبرتغال 2900 قرش كل عام كان يجلبها معه كل قنصل جديد، ..
و هذا يظهر أن حادثة المروحة ما هي إلا ذريعة لمحاصرة عاصمة الجزائر وإجبار الداي حسين على الاستسلام ؛ ويظهر هذا بوضوح في تصرف الكومندان کولي الذي ارسلته فرنسا على رأس قوة بحرية في 11 جوان ۱۸۳۰م لمطالبة الداي بتقديم الاعتذارات إلى قنصل فرنسا بالجزائر على ظهر سفينة
فرنسية، ويرفع العلم الفرنسي فوق حصون مدينة الجزائر وعلى الأخص فوق قصر الداي، وفي مقر البحرية ثم توجيه التحية للعلم الفرنسي بمائة طلقة مدفعية جزائرية ،..
وقد أنذر الضابط الفرنسي الداي بأن عدم الاستجابة لهذه المطالب في ظرف ٢٤ ساعة يعني إعلان الحرب على الجزائر، وبالفعل فقد رفض الداي هذه الشروط المجحفة والمهينة وبذلك أعلنت فرنسا الحرب على الجزائر يوم 16 جوان ۱۸۲۷م .
--------------------------------------------------------------
مواقف الدول من الحملة
️ لقد استغلت فرنسا الجو الدولي، فقد انهزم الأسطول التركي بالقرب من الميناء اليوناني نافاران في أثناء حرب استقلال اليونان ۲۰ اکتوبر ۱۸۲۷م.
و تقبل قيصر روسيا نيكولا الأول قيام فرنسا بحملة ضد الجزائر لأن هذه الضربة قد تضعف السلطة العثمانية وتؤمن حرية الملاحة في البحر الأبيض المتوسط ؛ وقد وقف ملك بروسيا الموقف نفسه؛ وكذلك لم تعارض دول شمال أوروبا.
وقبل ملك نابولي لإبحار سفن رعاياه في خدمة الجيوش الفرنسية من موانئ بلده .
ووقف باي تونس على الحياد تجاه الخلاف الجزائري الفرنسي منذ سنة ۱۸۲۸م ؛ مخالفا بذلك لتضامن الشعب التونسي مع الجزائر، وهو يريد في الحقيقة توسيع أراضيه ويسعى إلى وضع أخيه كداي على رأس الجزائر .
وتجدر الإشارة إلى أن باشا طرابلس يوسف القرمانلي عبر في رسالة عن تضامنه مع الداي حسين وأن ملك اسبانيا فردينان السابع تحفظ تجاه الحملة الحربية نظرا إلى معاهدته التجارية مع الداي حسين وإلى احترامه لمعارضة بريطانيا لحملة فرنسا على الجزائر ولسعيها لايجاد حل سلمي ..
وكانت بريطانيا قد حثت السلطان العثماني على ارسال شخصية إلى الجزائر قصد إقناع الداي حسين بقبول الحل السلمي ، ولقد أوفد السلطان السيد طاهر باشا إلا أن السلطات الفرنسية منعته من الاتصال بالداي،..
وفي 30 ماي ۱۸۳۰م . رفضت فرنسا استقبال مبعوث السلطان العثماني سليم الثالث الذاي اراد أن يجد حلا سلميا للخلاف بين فرنسا والجزائر وقد فسرت السلطات الفرنسية ذلك الموقف بوجود الحصار لميناء الجزائر والحقيقة هي أن القرار السياسي المتعلق باحتلال الجزائر قد اتخذ فأعلنه الملك في اليوم الثاني من مارس ۱۸۳۰ م عند افتتاح دورة غرفة النواب .
--------------
الخيارات التي عرضت على مجلس الوزراء الفرنسي قبل البدء في غزو الجزائر :
وقد ناقش الوزراء الفرنسيون الخيارات التالية إحداها:
▪︎الإبقاء على الداي في حكم الجزائر، على أن تشرف فرنسا عليه من الناحية العسكرية فنحدد عدد الجيش والأسطول الذي يستطيع الاحتفاظ به.
▪︎ أو إعادة الجزائر إلى الدولة العثمانية مع إقامة حكومة منظمة فيها تضمن احترام الملاحة الأوروبية في البحر المتوسط.
▪︎ أو أن تتقاسم فرنسا الجزائر مع الدول الأوروبية وخاصة إنجلترا.
▪︎ أو أن تحتل فرنسا الجزائر بصورة دائمة وتقوم باستغلالها اقتصاديا ..
وقد تم الإتفاق على الرأي الأخير.
-------------------------------------------------------------------
كيف تم احتلال الجزائر
كانت عوامل الإنهيار واضحة المعالم في حكومة الداي حسين ؛ وقدرته على الصمود ضعيفة ، وبالتالي كان طبيعيا أن ينجح الفرنسيون في احتلال الجزائر، فقد انفرد الداي بالسلطة واعتمد على مجموعة صغيرة من الجند والأقرباء الذين كانوا في حاشيته وفي خدمته،..
وقد حدث تهميش في عهده لأبناء الجزائر فقد كانوا يعيشون في عزلة كبيرة ومبعدين عن إدارة الحكم في البلاد ..
كان سقوط حكومة الداي بسهولة و سرعة فائقة، بسبب عدم وجود جيش قوي وقيادة له حکيمة وواعية على ما كان عليه في عهد خير الدين بربوس ومن بعده ؛ كما أن الداي كان مهتما بجمع الأموال والثروات، ولم يستعد لمثل هذا اليوم العصيب وكان يعتقد بأن الجزائر محصنة وأن جيشه التقليدي الذي لا يتجاوز ستة آلاف جندي تركي قادر على مواجهة الفرنسيين في حالة هجومهم على موانئ الجزائر .
كانت فرنسا قد أعدت العدة وقررت غزو الجزائر منذ يناير ۱۸۳۰م وألفت ثلاث لجان للإعداد للحملة التي قررت أن يكون الإنزال في سيدي فرج، وفي 7 شباط فبراير أصدر الملك شارل العاشر مرسوما ملكيا يعلن التعبئة العامة، وأعلن في خطاب العرش :
《أن الحملة انتقام للشرف الفرنسي، وأنها حملة مسيحية على بلاد المسلمين المتوحشين وأهلها ؛ خدمة للعالم المسيحي ..》
وصل عدد جنود الحملة ٣٧ ألف جندي، وعدد الخيول ٤٥٠٠ ، و ۹۱ مدفعا و ۹۰۰ سفينة منها ۱۰۳ حربية ، كانت السفن شراعية باستثناء عدد لا يتجاوز أصابع اليدين كانت بخارية، وقد نظمت هذه القوات في ثلاث فرق مشاة وكتيبتين من الفرسان ، وبطاريات من مدفعية الميدان والحصار،
كما نظم الأسطول في ثلاث أساطيل أسطول لسفن الإنزال، وأسطول للقوات البحرية الهجومية و الدفاعية؛ ورسطول ثالث لسفن النقل التي تحمل من الذخيرة ما يكفي الجيش لمدة ثلاثة أشهر .
غادرت أساطيل الحملة طولون يوم ٢٥ أيار . مایو ۱۸۳۰م وبعد أيام وصلت أمام مدينة الجزائر ؛ وأمام نشاط الرياح قرر أميرال الأسطول عدم الرسو والعودة نحو الشمال وفي ذهنه
تذكر النكبات التي أصابت الأساطيل الأوروبية أمام هذه المدينة وبخاصة أسطول شارل کویثو الإسباني . مثلما ذكر المارشال ماكماهون في مذكراته ..
وسخط قائد الحملة الجنرال بورمون وكاد أن يأمر الأميرال بعدم الانسحاب، لكنه خشي إحداث شقاق بين القوات البرية والبحرية ..
وفي أثناء مناورة أسطول الحملة هذه وفي وسط المسافة بين الساحل الجزائري وجزر البليار شوهدت بارجتان حربيتان تركيتان تتجهان نحو سفينة القيادة الفرنسية، وأقتربنا منها وتوقفتا وصعد ضابط تركي واجتمع بالجنرال بورمون حيث
عرض عليه رسالة من الخلافة العثمانية تطلب فيها التوقف على غزو الجزائر مقابل التزامها بسحب الداي حسين وتقديم التعويضات اللازمة لفرنسا ...
ورفض بورمون هذا العرض التركي، وكانت الدولة العثمانية في وضع ضعيف واقعة تحت رحمة السيطرة الأوروبية بسبب الصراع بينها وبين محمد علي والي مصر .
وبعد رسو الأسطول في جزر البليار أياما توجه مرة ثانية إلى الجنوب ووصل الأسطول الفرنسي أمام مدينة الجزائر يوم 13 يونيو . حزيران ؛ وبعد أن قام بمناورة استعراضية توجه
إلى سيدي فرج، ..
وفي الساعة الثانية صباحا من يوم 14 هبطت الفرقة الأولى مشاة وعلى رأسها الجنرال بيرتوزان، وقبل نزول الفرقة قام الأسطول بتوجيه أول طلقات مدفعيته إلى مئذنة مسجد سيدي فرج فدمرها، وفسر ذلك بأن هذه رسالة موجهة للجزائر وللعالم بأن الغزو هو غزو صليب للهلال 

وجرى الإنزال بدون مقاومة كبيرة ، وقامت هذه القوات
باقامة معسكراتها وتحصينها، ثم تقدمت نحو الجزائر، وما كادت هذه القوات تستقر على الأرض حتى هوت عليها قذائف مدفعية السواحل القليلة التي كانت منصوبة في سيدي
فرج، فبعثرت قذائفها أشلاء مجموعة من جنود العدو ونشرت أجسادها في الفضاء ..
واستمر قصف المدفعية الجزائرية نصف ساعة دفع قوات الاحتلال إلى التقهقر ؛ وبعدها تمكنت القوات الغازية من إخماد هذه البطارية التي قاوم مدفعيوها الشجعان إلى أن استشهدوا، ..
وفي 18 حزيران . يونيو هاجمت قوات الاحتلال الجيش الجزائري الذي كان يرابط في خط دفاع أول ب ستاویلي، وكانت القوات الجزائرية بقيادة نسيب الداي إبراهيم
أغا يساعده باي قسنطينة أحمد باي وكان تعداده ستة آلاف جندي متواضعي التسليح والتدريب،
وبالرغم من ذلك فقد شن الجيش على قوات الاحتلال هجوما عاما يوم يونيو . حزيران، ودارت معركة شديدة أسفرت عن إنهزام الجيش الجزائري الذي كان يعتمد على خفة الحركة والكر والفر ، ويستعمل بنادق عتيقة ويعتمد أساسا على استعمال السيوف ، في الوقت الذي كان فيه الفرنسيون يعتمدون على جيش منظم ونيران كثيفة وتسليح حديث، وطوابير ثابتة تتقدم متلاحمة تصد هجمات الفرسان الجزائريين وتشتت شملهم في خطة محكمة، ...
وانسحب الآغا إبراهيم من ستاویلي وقام بعمل عراقيل لقوات العدو تاركا في أرض المعركة ۲۷۰۰ خيمة منها خيمته، و٦٠ جملا نحرها الفرنسيون وأكلوا لحمها ..
ويقول حمدان خوجة في كتابه المرآة : دخل إبراهيم أغا الحرب بلا جيش مدرب منظم، وبدون ذخائر وبدون مواد غذائية وبدون شعير للخيل وبدون أي كفاءة للقيام بالحرب،
لقد أعطى كل جندي طلقتين اثنتين فقط.
ويقول الجنرال بيرتوزان : " إن الرماة الجزائريين يحسنون أفضل منا في الرماية " ....
"وكان رأي أحمد باي تجنب حرب المواجهة أمام الجيش الفرنسي القوي والمسلح، وتشكيل المقاتلين الجزائريين في مجموعات وتوزيعها على طول الطريق بين سيدي فرج والجزائر، لكن الأغا إبراهيم البعيد عن الكفاءة لم يستمع إليه كان أكبر خطأ ارتكبه الداي عزل الآغا يحيي الكفء من قيادة الجيش وتعيين إبراهيم لا لشيء إلا لأنه صهره" .
بعد هزيمة ستاویلي هرب إبراهيم من الميدان واختفى في منزل ريفي، وأرسل له الداي حمدان خوجة فأقنعه بالعودة لقيادة الجيش ، فعاد لكنه هرب مرة أخرى عندما وصل
العدو لسيدي خالف.
وفي يوم ۲۲ تقدمت قوات العدو نحو سيدي خالف وتصورت أنها لا تلاقي مقاومة، لكنها فوجئت بقوة يقودها القائد الشجاع مصطفي بو مزراق والي تيطري التي تمكنت من
إلحاق خسائر مهمة بالعدو قبل أن تنسحب نحو العاصمة.
وأمام هذه المقاومة التي تعتمد على الشجاعة قرر الجنرال بورمون قائد الحملة انتظار تعزيزات فوصلت يوم ۲٥ من الشهر، ثم أمر بالتقدم نحو مدينة الجزائر يوم ۲۹ يونيو .
حزيران قاصدا قلعة السلطان، وفقا للخريطة التي سبق أن أعدها الجاسوس العقيد بوتان في عهد نابليون،...
لكن قواته ضلت طريقها، فقد شاهدت بحيرة من الماء تصورت أنها البحر فأمر بورمون سائر القطاعات التوقف والتوجه نحو الماء فاندفعت الفرقة الثانية وفجأة وجدت نفسها تغوص في وهاد صعبة ..
وقد تكلف قائد الفرقة الجنرال لوفيردو جهدا وساعات من أجل السيطرة على الموقف والخروج من وهاد ووديان وغابات بوزريعة وإخراج قواته من الفوضى العارمة التي وقعت فيها نتيجة لكونها تاهت عن الطريق وانحرفت شمالا..
وللأسف لم يستغل الجزائريون تلك الفوضى فقد كانوا فاقدي القيادة العسكرية والكفاءة، ومثلما يقول المارشال ماكماهون في مذكراته :
" ولو اتيح للجنود الأتراك الذين يعسکرون على طريق الميناء الحقيقي أن يهاجموا الفرقة الثانية أثناء ضلالها لكبدوها خسائر فادحة."
وانتظرت قوات الاحتلال التحاق قطع الأسطول من سيدي فرج وقامت قطع البحرية بقصف مرابطي مدفعية المدينة وتمكنت من فتح ثغرات فيها، وعندها أمر بورمون بالتقدم
يوم 3 تموز . يوليو، ووصلت القوات الغازية خط الدفاع الأول المتمثل في برج مولاي حسن ..
وحفر الفرنسيون الخنادق وراحوا يهاجمون البرج الذي كان يقوده قائد فاشل أيضا هو الخزناجي، وقاوم الجزائريون مقاومة شرسة لكن النيران تسربت إلى مخزن البارود الصغير
فأحدثت انفجار مهولا دمر جزءا من القلعة فاستغله الفرنسيون واحتلوها بعد أن تكبدوا خسائر كبيرة،
وقد تم كل ذلك في ساعات وصاروا يهددون المدينة من هذه القلعة وتحصيناتها المشرفة على القصبة، بعد أن نصبوا عليها مدافعهم ووجهوا فوهاتها للمدينة .. ومن البحر كان الأسطول الفرنسي كذلك يصوب مدافعه للمدينة.
واقتنع باي تيطري مصطفی بو مزراق أن لا أمل في المقاومة فانسحب إلى ولايته .
-----------
لما تأكد نزول الجيش الفرنسي سيدي فرج يوم ١٤ جوان ۱۸۳۰م وبدأ يستعد لكي يزحف على الجزائر العاصمة من الغرب، شعر حاكم الجزائر الداي حسين بالخوف على نفسه وعلى سلطته ...
وقرر الداي حسين باشا أن يجتمع برؤساء الهيئات المهنية الموجودة في المدينة وأعيان البلاد وشيوخ القبائل والعلماء ورجال القانون واستعرض معهم الوضع الخطير الذي كانت عليه المدينة وطلب منهم إعطاءه رأيهم حتى يمكن التوصل إلى وسيلة تحقق السلامة وتقضي على الشرور ...
وقال لهم حسب شاهد عيان :
"أصدقائي لا تتحرجوا وقولوا رأيكم بصراحة، ففي مثل هذه الظروف يجب أن نتداول على أنجع الوسائل ولست إلا واحدا منكم، فماذا ترون؟ هل من الممكن أن نقاوم الفرنسيون مدة أطول؟ أم هل يجب أن نسلم المدينة بمعاهدة تسمى استسلام".
وبما أن كلام الداي غامض ولا أحد يعرف ماذا يريد من أعيان المدينة، فقد أجابوه بأسلوب مماثل حيث كان ردهم كالآتي :
"سنحارب إلى أن نستشهد عن آخرنا ومع ذلك فإذا فضل سموكم وسائل أخرى فإنه حر في أن يعمل ما يراه صالحا وسيجدنا عند إرادته " ..
وفي الحقيقة أن إشارة الداي إلى قبول الاستسلام للفرنسيين وتسليم المدينة حسب نصوص معاهدة يوقعها معهم تدل دلالة واضحة على قناعته بأنه غير قادر على المقاومة وأن انھیار حکومته هي مسألة وقت فقط،
والمؤرخون الذين عايشوا الداي وتعرفوا على ما يجري في الأوساط المحيطة به أكدوا بأن الصراع الذي كان يدور بين معاونيه منذ مدة هو الذي مهد الطريق للاحتلال الفرنسي بسرعة فائقة.
وعندما أحس الداي حسين أن المدينة صارت في حكم السقوط ، قرر الاتصال بالفرنسيين فأرسل أحد أمناء سره لمفاوضتهم، بعد أن حاول توسيط القنصل البريطاني الذي رفضه الفرنسيون، وأبلغوا الداي تسليم المدينة بلا قيد ولا شرط، ...
ووصل شخصان کرسولين وقابلا الجنرال بورمون وعرضا عليه تعويضات سخية تقدم له مع الاعتذار مقابل عودة الجيش الفرنسي ..
ويروي الفرنسيون أنه عندما رفض طلبهما صاح أحدهما قائلا : إذا كان يسرك يا جنرال أن ترى رأس الداي بين يديك فإنني سأذهب الآن للعودة به إليك في طبق.
لكن الجنرال اكتفى بإعادة شروطه على الرسولين والمتمثلة في الاستسلام بلا شرط، وأرسل الجنرال بورمون إلى الداي نص المعاهدة الآتية :
▪︎ تسلم قلعة القصبة وكل القلاع الأخرى المتصلة بالمدينة وميناء هذه المدينة إلى الجيش الفرنسي هذا الصباح الساعة العاشرة .
▪︎ يتعهد القائد العام للجيش الفرنسي أمام سعادة باشا الجزائر أن يترك له الحرية وكل أمواله الشخصية .
▪︎ يكون الباشا حرا في أن يتوجه هو وأسرته وثروته الخاصة إلى المكان الذي يختاره، وإذا فضل البقاء بالجزائر فله ذلك هو وأسرته تحت حماية القائد العام للجيش الفرنسي الذي سيعين له حرسا لضمان أمنه الشخصي وأمن أسرته .
▪︎ يتعهد القائد العام أن يقدم لكل الجنود الإنكشارية نفس المعاملة ونفس الحماية.
▪︎سيظل العمل بالدين الإسلامي حرة، كما أن حرية السكان مهما كانت طبقاتهم ودياناتهم وأملاكهم وتحارهم وصناعتهم لن يلحقها أي ضرر، وستكون نساؤهم محل احترام، ويلتزم القائد العام على ذلك بشرفه، وسيتم تبادل وثائق هذا الاتفاق قبل الساعة العاشرة من هذا الصباح، وسيدخل الجيش الفرنسي حالا بعد ذلك إلى القصبة وكل القلاع حول المدينة والميناء.
الكونت دي بورمون ختم حسين باشا داي الجزائر .
وقع الداي في أثناء الليل المعاهدة التي هي عبارة عن شروط استسلام وسلمت المدينة فعلا صباح 5 تموز . يوليو ۱۸۳۰م...
وفي يوم 6 جويلية ۱۸۳۰م دخل الجنود الفرنسيين مدينة الجزائر من الباب الجديد بأعلى المدينة وأنزلت أعلام دولة الداي من جميع القلاع والأبراج، وارتفعت في مكانها رايات
الاحتلال الفرنسي ...
وأقيمت صلاة للمسيحيين وخطب فيها كبير قساوسة الحملة، فقال مخاطبا قائد الحملة الفرنسية : لقد فتحت بابا للمسيحية على شاطئ أفريقيا؟ .
ودخل الجنرال بورمون المدينة وسكن أحد قصورها، وبعد أيام أمر بورمون الجنرال بيرتوزان بإحصاء محتويات خزينة الدولة الجزائرية التي سلم الداي مفاتيحها لبورمون مع وثيقة
الاستسلام،
ويروي المارشال ماكماهون الذي رافق الجنرال للخزنة كضابط صغير :
"كانت الخزينة عبارة عن حجرة تبلغ مساحتها ستة أمتار في خمسة، في أقصاها سياج من خشب البلوط يبلغ ارتفاعه مترین، کدست بينه وبين جدار الغرفة نقود فضية من كل نوع وعلی اليمين صندوق كبير فيه نقود من الذهب لاسيما النوع الإسباني، وعلى الأرض ثلاثة أقراص صغار أو أربعة من الذهب وقدر هذا الكنز بما يعادل ثمانين مليون فرنك، وهو مبلغ يفوق تكاليف الحملة التي قدرت ب 43 مليون فرنك .
ويبدو أن الخزينة كان بها مبالغ أكثر من هذا و لكن ضباط الحملة نهبوها و أحرقوا السجلات .. و سنقدم أدلة على ذلك في الفقرة القادمة إن شاء الله .
تابع الحلقة الأولى : اضغط هنا : تاريخ الإحتلال الفرنسي للجزائر الحلقة ( الأولى)
--------------------------------------------------------------------،،
- د. شاويش حباسي"من مظاهر االروح الصليبية للاستعمار الفرنسي بالجزائر .ص ١٣-١٦
- التاريخ السياسي للجزائر د. عمار ہو حوش، ص ۸۳ - ١٠٠.
- تاريخ العرب الحديث د. حلمي محروس، ص: ۲۲٣
- الحركة التبشيرية الفرنسية في الجزائر، خديجة بقطاش، ص ١٥ - ١٩
- تاريخ العرب الحديث د. حلمي محروس، ص: ۲۲۳-٢٢٤
- الجزائر في التاريخ عثمان سعدي، ص: ٤٤٧ - ٤٥٠ ٠
- الثورة الجزائرية د. بو غلام بن حمودة، ص: ۱۷، ۱۸.
☆ كفاح الشعب الجزائري ضد الإحتلال الفرنسي د. على محمد الصلابي ص ٢٧٦ - ٢٨٨
تعليقات
إرسال تعليق