امتلاك البحر الأسود والهيمنة على السويد وبولندا.. وصايا الإمبراطور بطرس الأكبر التي يسعى بوتين إلى تحقيقها
في موسكو، عاصمة روسيا اليوم، وفي الثلث الأخير من القرن السابع عشر، وُلد بطرس ألكسييفيتش (أليكس الأول) ميخائيل رومانوف، خامس قياصرة روسيا (1672-1725)، الذي سيُعرف فيما بعد بأنه أهم وأعظم قياصرة البلاد، وباني نهضتها الحديثة، ومُطوِّر مسيرتها، وموسِّع جغرافيتها في آسيا وأوروبا، ومُنشئ عاصمتها الجديدة "سان بطرسبرغ"، وواضع إستراتيجيتها بوصفها قوة عالمية مؤثرة، وأول مَن انتزع للروس مَنْفذينِ على البحرين الأسود والبلطيق من العثمانيين والسويديين. رجل جمع بين قوة الشكيمة، وسفك الدماء، ووحشية المعاملة من جهة، وبين الذكاء السياسي، والمهارة العسكرية، والطموح العمراني والصناعي والحربي على الجهة الأخرى.
قبل عهد بطرس الأكبر، كانت روسيا تعيش نوعا من البدائية والهمجية، صحيح أن جدَّه إيفان الرابع "الرهيب" (ت 1488) استطاع توحيد إمارات الروس المتصارعة والمتفرقة بين موسكو وكييف، التي كانت تدين بالتبعية المطلقة لنفوذ المغول المسلمين حكام روسيا، كما تمكَّن من إخضاع معظم خانيات المغول في روسيا عدا خانية تتار القرم، لكن طموحات الحفيد تجاوزت تصورات الجد بمراحل كبيرة.
تساءل الفيلسوف الفرنسي فولتير ذات مرة: ما الخطوات التي انتقل بها الناس من الهمجية إلى المدنية؟ وقد أثارته شخصية القيصر بطرس الأكبر ورأى فيها إجابة حية عن تساؤله الآنِف، وكان فردريك الثاني ملك بروسيا (مناطق شرق وشمال ألمانيا) (1712-1786) مُعجَبا هو الآخر بمعاصره بطرس الأكبر، حيث قال عنه: "لقد كان الملك الوحيد المتعلِّم حقا، لم يكن حاكم وطنه ومشرِّعه فحسب، بل كان يفهم جميع العلوم البحرية فهما تاما، وكان معماريا وجراحا، وجُنديا خبيرا، واقتصاديا بارعا… ولم يعوزه إلا تعليم أقل همجية وضراوة؛ ليكون المثل لجميع الملوك"[1].
بطرس وروسيا الإمبراطورية

في بداية حكمه، أُرغم بطرس على أن يحكم مع أخيه المريض من الأب إيفان الخامس (ت 1696)، ولكن أخت إيفان الشقيقة صوفيا أرادت أن يكون الحكم لأخيها ولها من بعده، وأن تسيطر على مقاليد الأمور كاملة، وكانت مدعومة في ذلك بالحرس القيصري الخاص في الكرملين، وحين تمكَّن بطرس الأكبر من ارتقاء الحكم بواسطة أعوانه ومؤيديه، قرَّر "ذبح حامية موسكو بلذة سادية وقسوة" كما يصف بعض المؤرخين. كان بطرس كما يصفه المؤرخ الشهير ول ديورانت "رجلا من طراز إيفان الرهيب ولكنه مرح، تواقا إلى التحضر ولكنه يحسد الغرب؛ لا على لطائفه وفنونه بل على جيوشه وأساطيله، وعلى تجارته وصناعته وثروته. كان ينظر إلى هذه الغايات باعتبارها مقومات الحضارة، ومن هنا جاء فضوله الذي لا يشبع؛ فهو يريد أن يعرف عن كل شيء كيف يسير، ثم كيف السبيل إلى تسييره سيرا أفضل، وقد أضنى مساعديه أثناء رحلاته بالجري هنا وهناك ليرى هذا وذاك حتى أثناء الليل"[2].
ولهذا السبب اشتهر عنه اهتمامه وتقليده للدول الأوروبية المتقدمة آنذاك مثل هولندا وفرنسا وبريطانيا والسويد، حتى كان يستقبل كل ذي موهبة أوروبي لكي يستفيد منه في بناء دولته، ولعل ميله -على خلاف آبائه وأجداده- إلى الأوروبيين وتقريبهم منه قوبل بانتقاد وغضب من قِبَل الروس الذين رأوه محابيا للأوربيين، بيد أن مؤرخ سيرته بوغانوف وضَّح أسباب ذلك، مُشيرا إلى أن اعتماد القيصر بطرس الأكبر على الأجانب دون الروس في تلك المرحلة كان من أجل بلاده ومستقبلها، "فكل الدلائل تُشير إلى أن هذا الإنسان النشيط الموهوب كان منذ نعومة أظفاره يُفكر في روسيا موطنه، ويسعى إلى السير بها في دروب جديدة بمعونة الروس قبل غيرهم، كان يريد أن يُحرِّك المجتمع الروسي بإرادته وطاقاته، وبالفلقة عند الاقتضاء، كان مستاء من جوانب كثيرة في هذا المجتمع ويريد تصحيح الكثير وتجديده"[3].
ومن أجل هذا شرع بطرس في بناء عاصمة إمبراطورية جديدة لروسيا بعيدا عن تقليدية ورتابة موسكو وهي سان بطرسبرغ، التي شرع في بنائها على الطراز الغربي، وكانت العاصمة القريبة من بحر البلطيق تُعبِّر كما يقول بعض المؤرخين عن مستقبل ورؤية جديدة للبلاد: "لقد كان في بطرس من شدة الشوق إلى تغريب روسيا ما دفعه إلى تحويلها صوب البلطيق وكأنه يجرها إليه جرا. وفي سبيل هذا الهدف، وفي سبيل توفير قاعدة لأسطوله وميناء للتجارة الخارجية، ضحَّى بكل الاعتبارات الأخرى. صحيح أن الميناء سيحيط به الجليد خمسة أشهر في السنة، ولكنه يعني أن بلاده ستواجه الغرب وتلمس البحر. وكما أن (نهر) الدنيبر جعل روسيا بيزنطية، و(نهر) الفولجا جعلها آسيوية، فكذلك سيُغريها (نهر) النيفا -في الغرب- بأن تكون أوروبية"[4].
استطاع بطرس أن يُخضع مناطق شاسعة من ممالك السويد ولاتفيا وفنلندا وإستونيا لسيادة روسيا، وكان بناء سان بطرسبرغ واتخاذها عاصمة للإمبراطورية الروسية بمنزلة إعلان روسيا قوة عالمية عظمى في تلك الأثناء، ففي عام 1714، وبعد استعراض أسرى السويد في شوارع سان بطرسبرغ، وقف بطرس الأكبر مخاطِبا جيشه وشعبه بالقول: "أيها الأمراء وأعيان بلادي وأصدقائي الذين رافقوني في كل فتوحاتي وساعدوني في جميع مشروعاتي، هل خطر لأحد منكم أو من آبائكم من عشرين سنة أننا سنتوصَّل إلى هذه الحالة وأنكم ستقاتلون معي في بحر بلطيق، وتُنشئون سفنا تمخرُ فيه برايات النصر؛ مستولية على كل سواحله، ورافعة الرايات الروسية على قلاعه ومرافئه، فضلا عن أنكم بدَّدتم أسطول العدو ومزَّقتموه كل ممزّق بأسطول مدّدتموه بأيديكم، وقاتلتم عليه بشجاعتكم، ولا ريب أنكم أصبحتم تشعرون اليوم بلذة تلك الفتوحات"[5].
طموح جارف
وإذا كان بطرس قد تمكَّن من مد السيادة الروسية إلى بحر البلطيق في مناطق نوفوغراد وما حولها، بل وتمكَّن من بناء عاصمته الجديدة سان بطرسبرغ، فإن إنجازه الأهم كان مد سيطرة روسيا إلى سواحل البحر الأسود حين استولى على قلعة آزاق على بحر آزوف المُتفرِّع من البحر الأسود الشمالي عام 1700. وقبل نهاية ذلك العام نفسه، انطلق بطرس إلى بريطانيا في رحلة استمرَّت أربعة أشهر كاملة تلبية لدعوة تلقَّاها من الملك الإنجليزي وليام الثالث. خلال زيارته تلك "صرف القيصر القسم الأكبر من الوقت في أحواض بناء السفن، ففي ديتفورد بضواحي لندن تلقَّى منهجا نظريا في بناء السفن بإشراف مفتش الأسطول الملكي السير أنطوني دين. كما ذهب إلى بورتسموث القاعدة الرئيسية للأسطول البريطاني، وراقب مناورات السفن الحربية التي هي أضخم السفن في العالم آنذاك"[6]، كما يذكر مؤرخ سيرته بوغانوف.
وفي عام 1709، وقعت أهم معركة في تاريخ روسيا في ذلك الوقت، حين واجه بطرس الأكبر وقواته الجيشَ السويدي بقيادة الملك شارل الثاني عشر في منطقة بولتوفا التي تقع اليوم في شمال شرق أوكرانيا، تمكَّن بطرس في هذه الموقعة من سحق الجيش السويدي والقضاء على قوته الصاعدة في شمال غرب وشمال وسط أوروبا، واضطرت الهزيمةُ الملكَ السويدي شارل إلى الهرب صوب الدولة العثمانية لاجئا، فيما تمكَّن بطرس من توسيع رقعة دولته إلى شمال شرق أوكرانيا وبيلاروسيا وجزء كبير من بولندا الحالية.
على مدار السنوات الخمس عشرة التالية، انكبَّ بطرس على توسيع رقعة دولته، وتقوية أساطيلها وصناعتها الحربية، بل والتدخُّل في شؤون الدول المجاورة لإمبراطوريته لجعلها تحت السيطرة الروسية الدائمة، يشمل ذلك بولندا وأوكرانيا وتتار القرم وشمال القوقاز، والمناطق الأبعد في البُغدان والأفلاق "رومانيا" وبلغاريا والجبل الأسود وصربيا، وهي في معظمها -كما نرى- مناطق كانت تخضع لسلطان الدولة العثمانية في ذلك التاريخ.
وصايا بطرس الأكبر.. هل تلهم فلاديمير بوتين؟
خلال سنوات حكمه التي استمرَّت أكثر من ثلاثين عاما، تمكَّن الإمبراطور بطرس الأكبر من بناء إستراتيجية سياسية وعسكرية ودبلوماسية لبقاء وديمومة القوة الروسية في العالم المحيط، وهي الإستراتيجية التي دوَّنها على شكل وصايا لخلفائه من بعده، واللافت أن هذه الإستراتيجية التي كُتبت قبل ثلاثة قرون نراها -عند التأمل والمقارنة- تتوافق مع حروب الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين في القوقاز وأوكرانيا والبحر الأسود وغيرها، واللافت كذلك أن الرئيس الروسي بوتين دائما ما أبدى إعجابه الشديد بشخصية بطرس الأكبر، ولعل لهذه الأسباب مجتمعة هي التي دفعت بعض المفكرين والإستراتيجيين الأميركيين الذين التقوا بوتين -مثل هارَلد مالمغرام مستشار عدد من الرؤساء الأميركيين مثل كينيدي وجونسون ونيكسون وفورد- إلى وصفه بأنه تجسيد روسي معاصر لشخصية بطرس الأكبر[7].
دارت أغلب وصايا الإمبراطور بطرس الأكبر (ت 1725) حول إخضاع مناطق القوقاز والقرم والبلطيق وأوكرانيا، وضرورة ديمومة التهديد الروسي لفنلندا والسويد، وجعْل الكنيسة الأرثوذكسية في المكانة اللائقة بها عالميا باعتبارها "روما الثالثة" وقِبلة المسيحيين، فضلا عن لعب الروس على استثارة النزاعات والخلافات بين القوى الأوروبية. وقد نقل العديد من المؤرخين هذه الوصايا، لعل أشهرهم أحمد جودت باشا (1822-1895) في تاريخه الموسوم بـ"تاريخ جودت باشا"، ونقلها عنه المؤرخ والمناضل المصري محمد فريد بك.

في المادة الأولى من وصايا بطرس، نراه يحض صُنَّاع القرار الروس على ضرورة وديمومة الحرب، "فمن الضروري أن تعتاد العساكر على الحرب والقتال دائما، وينبغي للأمة الروسية أن تكون على أُهبة الاستعداد، مع ضرورة ترك وقت لراحة العساكر من أجل إصلاح الشؤون المالية، وتنظيم العساكر باستمرار حتى يحين الوقت المناسب للهجوم. وعلى هذه الصورة ينبغي لروسيا أن تستفيد من وقت الصلح والأمان في زيادة مؤنها وتوسيع مجال منافعها، فتتخذ من الصلح وسيلة للحرب"[8].
تعليقات
إرسال تعليق